سورة غافر - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} عطفٌ عَلى قِهِمْ وتوسيطُ النداءِ بينَهما للبمالغةِ في الجؤارِ {جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ} أيْ وعَدَتهم إيَّاهَا وقرئ: {جَنَّةَ عَدْنٍ} {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ} أيْ صلاحاً مصحَّحاً لدخولِ الجنةِ في الجملةِ وإنْ كانَ دونَ صلاحِ أصولِهم وهُوَ عطفٌ على الضميرِ الأولِ أيْ وأدخلها معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعفُ ابتهاجُهم أوْ عَلى الثانِي لكنْ لا بناءً عَلى الوعدِ العام للكلِّ كما قيل إذ لا يبقى حينئذ للعطف وجه بل بناء على الوعد الخاصِّ بهمْ بقولِه تعالَى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} بأنْ يكونُوا أعلى درجةً منْ ذريتِهم قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ: يدخلُ المؤمنُ الجنةَ فيقولُ أينَ أبي أينَ ولدي أينَ زَوْجي فيقالُ إِنَّهم لمْ يعملُوا مثلَ عملكَ فيقولُ إني كنتُ أعملُ لي ولهُم فيقالُ أَدخلوهم الجنةَ. وسبقُ الوعدِ بالإدخالِ والإلحاقِ لاَ يستدعي حصولَ الموعودِ بلا توسطِ شفاعةٍ واستغفارٍ وعليهِ مَبْنى قولِ منْ قالَ فائدةُ الاستغفارِ زيادةُ الكرامةِ والثوابِ والأولُ هو الأَولى لأنَّ الدعاءَ بالإدخالِ فيه صريحٌ وفي الثاني ضمنيٌّ وقرئ: {صَلُح} بالضَّمِ وذرّيتِهمُ بالإفرادِ {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي الغالبُ الذَّي لاَ يمتنعُ عليه مَقْدورٌ {الحكيم} أي الذي لا يفعلُ إلاَّ ما تقتضيهِ الحكمةُ الباهرةُ مَن الأمورِ التي منْ جُمْلتها إنجازُ الوعدِ فالجملةُ تعليلٌ لما قَبْلها.
{وَقِهِمُ السيئات} أي العقوباتِ لأَنَّ جزاءَ السيئةِ سيئةٌ مثلُهَا أو جزاءَ السيئاتِ عَلَى حذْفِ المُضافِ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ أوْ مخصوصٌ بالأتْباعِ أو المعاصي في الدُّنيا فمعنى قولِه تعالَى {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ}: ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته فِي الآخرةِ كأنَّهم طلَبوا لهُمْ السببَ بعدَ مَا سألُوا المُسبَّبَ {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحمةِ المفهومةِ من (رَحْمتَه) أوْ إليَها وإِلى الوقايةِ وَمَا فيه منْ مَعْنى البُعدِ لما مَرَّ مِراراً منَ الإشعارِ ببُعْدِ درجةِ المُشارِ إليهِ {هُوَ الفوز العظيم} الذِي لاَ مطمعَ وَرَاءَهُ لطامعٍ.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} شروعٌ في بيانِ أحوالِ الكفرة بعدَ دخولِهم النَّارَ بعدَ ما بينَ فيما سبقَ أنهُمْ أصحابُ النارِ {يُنَادَوْنَ} أيْ مِنْ مكانٍ بعيدٍ وهُمْ في النارِ وقَدْ مقتُوا أنفسَهُم الأمَّارةَ بالسُّوءِ التي وقعُوا فيمَا وقعُوا باتباعِ هَوَاهَا أوْ مقَتَ بعضُهم بعضاً من الأحبابِ كقولِه تَعَالَى: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أيْ أبغضوهَا أشدَّ البغضِ وَأنكروهَا أبلغَ الإنكارِ وَأظهرُوا ذلكَ على رؤوسِ الأشهادِ فيقالُ لهم عندَ ذلكَ {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أيْ لمقتُ الله أنفسَكُم الأمَّارةَ بالسوءِ أوُ مقتُه إِيَّاكم في الدُّنيا {إِذْ تَدْعُونَ} منْ جهةِ الأنبياءِ {إِلَى الإيمان} فتأبَوْنَ قَبولَهُ {فَتَكْفُرُونَ} اتّباعاً لأنفسكمْ الأمَّارةِ ومسارعةً إِلى هَوَاها أوِ اقتداءً بِأَخِلاَّئِكُم المضلينَ واستحباباً لآرائِهم أكبرُ منْ مقتِكم أنفسَكُم الأمارةَ بالسوءِ أوْ مِنْ مقتِ بعضِكم بعضاً اليومَ فإذ ظرفٌ للمقتِ الأولِ وإنْ توسطَ بينَهما الخبرُ لما فِي الظروفِ من الاتساعِ وقيل: لمصدرٍ آخرَ مقدرٍ أيْ مقتُه إيَّاكم إذْ تدعونَ وقيلَ: مفعولٌ لأذكرُوا والأولُ هو الوجْه وقيلَ: كلا المقتينِ في الآخرةِ وإذْ تدعَونَ تعليلٌ لَما بينَ الظرفِ والسببِ منْ علاقةِ اللزومِ والمعنى لمقتُ الله إِيَّاكم الآنَ أكبرُ منْ مقتكم أنفسَكم لمَّا كنتمُ تُدعَونَ إِلى الإيمانِ فتكفرونَ، وتخصيصُ هَذَا الوجهِ بصورةِ كونِ المرادِ بأنفسِهم أضرابَهُم مما لاَ دَاعيَ إليهِ.


{قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} صفتانِ لمصدرَيْ الفعلينِ المذكورينِ أيْ إماتتينِ وإحياءتينِ أوْ موتتينِ وحياتينِ عَلى أنَّهما مصدرانِ لهما أيضاً بحذفِ الزوائدِ أو لفعلينِ يدلُّ عليهما المذكوران فإنَّ الإماتةَ والإحياءَ ينبئانِ عن الموتِ والحياةِ حَتْماً كأنَّه قيلَ: أمتنَا فمُتنَا موتتينِ اثنتينِ وأحييتَنا فحِييَنا حياتينِ اثنتينِ على طريقةِ قولِ مَنْ قالَ:
وعضةُ دهرٍ يا ابْنَ مروانَ لمْ تَدَع *** منَ المالِ إلاَّ مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ
أيْ لَم تدعَ فلمْ يبقَ إلا مسحتٌ إلخ قيلَ: أرادُوا بالإماتةِ الأُولى خلْقَهُم أمواتاً وبالثانيةِ إماتتَهُم عندَ انقضاءِ آجالِهم على أنَّ الإماتةَ جعلُ الشيءِ عادمَ الحياةِ أعمُّ منْ أنْ يكونَ بإنشائِه كذلكَ كما في قولِهم سبحانَ منْ صغَّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ أو بجعلهِ كذلكَ بعدَ الحياةِ وبالإحياءينِ الإحياءَ الأولَ وإحياءَ البعثِ وقيل: أرادُوا بالإماتةِ الأُولى ما بعدَ حياةِ الدُّنيا وبالثانيةِ ما بعدَ حياةِ القبرِ وبالإحياءينِ ما في القبرِ وما عند البعثِ وهو الأنسبُ بحالِهم، وأما حديثُ لزومِ الزيادةِ على النصِّ ضرورةَ تحققِ حياةِ الدُّنيا فمدفوعٌ لكنْ لا بما قيلَ من عدم اعتدادِهم بها لزوالِها وانقضائِها وانقطاعِ آثارِها وأحكامِها بل بأنَّ مقصودَهُم إحداثُ الاعترافِ بما كانوا يُنكِرونه في الدُّنيا كما ينطِقُ به قولُهم: {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} والتزامُ العملِ بموجب ذلك الاعترافِ ليتوسلُوا بذلكَ إلى ما علقوا بهِ أطماعَهُم الفارغةَ من الرجْعِ إلى الدُّنيا كما قد صرَّحوا بهِ حيثُ قالوا: {فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ} وَهُو الذي أرادُوه بقولِهم {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} معَ نوعِ استبعادٍ لهُ واستشعارِ يأسٍ منْهُ لاَ أنَّهم قالوه بطريقِ القنوطِ البحتِ كما قيلِ: ولا ريبَ في أنَّ الذي كانَ يُنكرونَهُ ويُفرِّعون عليهِ فنونَ الكفرِ والمعاصِي ليسَ إلا الإحياءَ بعدَ الموتِ وأمَّا الإحياءُ الأولُ فلم يكونُوا يُنكرونَه لينظِمُوه في سلكِ ما اعترفُوا بهِ وزعمُوا أنَّ الاعترافَ يُجديهُم نفعاً وإنما ذكرُوا الموتَةَ الأُولى معَ كونِهم معترفينَ بَها في الدُّنيا لتوقف حياةِ القبرِ عليهَا وكَذا حالُ الموتةِ في القبرِ فإنَّ مقصدَهُم الأصليَّ هوَ الاعترافُ بالإحياءينِ وإنَّما ذكرُوا الإماتتينِ لترتيبهِما عليهِما ذكراً حسبَ ترتبهِما عليهِما وجُوداً وتنكيرُ سبيلٍ للإبهامِ أيْ منْ سبيلٍ مَا كيفَما كانَ وقوله تعالى: {ذلكم} إلخ جوابٌ لَهُم باستحالةِ حصولِ مَا يرجُونه ببيانِ ما يوجبُها مِن أعمالِهم السيئةِ أيْ ذلكم الذي أنتمُ فيهِ منَ العذابِ مُطلقاٍ لا مقيداً بالخلودِ كَما قيلَ: {بِأَنَّهُ} أيْ بسببِ أنَّ الشأنَ {إِذَا دُعِىَ الله} فِي الدُّنيا أيْ عُبدَ {وَحْدَهُ} أيْ مُنْفَرِداً {كَفَرْتُمْ} أيْ بتوحيدِهِ {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} أيْ بالإشراكِ به وتسارعوا فيه، وفي إيرادِ إذَا وصيغةِ الماضِي في الشرطيةِ الأُولى وإنْ وصيغةِ المضارعِ في الثانيةِ ما لا يَخْفى منَ الدلالةِ على كمالِ سوءِ حالِهم وحيثُ كان حالُكم كذلكَ {فالحكم للَّهِ} الذي لاَ يحكُم إلا بالحقِّ ولاَ يقضِي إلاَّ بَما تقتضيهِ الحكمةُ {العلى الكبير} الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريدُ لا معقّبَ لحكمهِ وقد حكمَ بأنَّه لا مغفرةَ للمشركِ ولا نهايةَ لعقوبتِه كَما لا نهايةَ لشناعتِه فلا سيبلَ لكُم إلى الخروجِ أَبداً.


{هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته} الدالةَ عَلى شؤونِه العظيمةِ الموجبةِ لتفرده بالألوهيةِ لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبِهَا فتوحِّدوه تعالَى وتخُصُّوه بالعبادةِ {وَيُنَزّلُ} بالتشديدِ وقرئ بالتخفيفِ منَ الإنزالِ {لَكُم مّنَ السماء رِزْقاً} أيْ سببَ رزقٍ وهو المطرُ وإفرادُه بالذكرِ مع كونِه من جملةِ الآياتِ الدالةِ على كمالِ قُدرتِهِ تَعَالى لتفردِّه بعنوانِ كونِه من آثارِ رحمتِه وجلائلِ نعمتِه الموجبةِ للشكرِ، وصيغةُ المضارعِ في الفعلينِ للدِّلالةِ على تجددِ الإراءةِ والتنزيلِ واستمرارِهِما، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ لما مَرَّ غيرَ مرةٍ {وَمَا يَتَذَكَّرُ} بتلكَ الآياتِ الباهرةِ ولا يَعملُ بمقتضَاهَا {إِلاَّ مَن يُنِيبُ} إلى الله تَعَالى ويتفكرُ فيما أودَعهُ في تضاعيفِ مصنوعاتِهِ من شواهدِ قدرتِه الكاملةِ ونعمتِه الشاملةِ الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تَعالَى ومن ليسَ كذلكَ فهُو بمعزلٍ منَ التذكرِ والاتعاظِ {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أيْ إِذا كانَ الأمرُ كَما ذكرَ منَ اختصاصِ التذكرِ بمنْ ينيبُ فاعبدُوه أيُّها المؤمنونَ مخلصينَ له دينَكُم بموجبَ إنابتِكم إليهِ تعالَى وإيمانِكم به {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ذلكَ وغاظَهُم إخلاصُكم.
{رَفِيعُ الدرجات} نحوُ بديعِ السمواتِ عَلى أنه صفةٌ مشبّهةٌ أضيفتْ إلى فاعِلها بعدَ النقلِ إلى فُعُلٍ بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وتفسيرُه بالرافعِ ليكونَ منْ إضافِه اسمِ الفاعلِ إلى المفعولِ بعيدٌ في الاستعمالِ أيْ رفيعُ درجاتِ ملائكتِه أي معارجِهم ومصاعدِهم إلى العرشِ {ذُو العرش} أيْ مالكُه وهُمَا خبرانِ آخرانِ لقولِه تعالى: (هوَ) أخبرَ عنْهُ بهما إيذاناً بعلوِّ شأنِه تَعَالى وعظمِ سُلطانِه الموجبَيْنِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ وإخلاصِ الدينِ لهُ إمَّا بطريقِ الاستشهادِ بهمَا عليهَما فإنَّ ارتفاعَ معارجَ ملائكتِه إلى العرشِ وكونَ العرشِ العظيمِ المحيطِ بأكنافِ العالمِ العلويِّ والسفليِّ تحتَ ملكوتِه وقبضةِ قدرتِه مما يقضِي بكونِ علوِّ شأنِه وعظمِ سُلطانِه في غايةٍ لاغايةَ وراءَهَا وإمَّا بجعلَهما عبارةً عنهما بطريقِ المجازِ المتفرعِ على الكنايةِ كالاستواءِ على العرشِ وتمهيداً لما يعقُبهما من قولِه تعالى {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ} فإنَّه خبرٌ آخرُ لمَا ذكرَ منبىءٌ عن إنزالِ الرزقِ الرُّوحانِيِّ الذي هُو الوحيُ بعدَ بيانِ إنزالِ الرزقِ الجُسمانيِّ الذي هُو المطرُ أي ينزلُ الوحيَ الجاريَ من القلوبِ منزلةَ الروحِ منَ الأجسادِ وقولُه تعالَى مِنْ أمرِه بيانٌ للروحِ الذي أريدَ بهِ الوحيُ فإنَّه أمرٌ بالخيرِ أو حالٌ منِهُ أيْ حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منْ أمرِهِ أو صفةٌ لهُ عَلى رأْي منْ يجوزُ حذفَ الموصولِ معَ بعضِ صلتِه أي الروحَ الكائنَ منْ أمرهِ أو متعلقٌ بيُلقِي وَمنْ للسببيةِ كالباءِ مثلُ ما في قولِه تَعَالى: {مّمَّا خطيئاتهم} أي يُلقِي الوحيَ بسببِ أمرهِ {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} وهوَ الذي اصطفاهُ لرسالتِه وتبليغِ أحكامِه إليهمْ {لّيُنذِرَ} أي الله تعالَى أو الملقى عليه أو الروح، وقرئ: {لتنذر} على أن الفاعل هو الرسول عليه الصلاة والسلام أو الرُّوحُ لأنَّها قد تؤنث {يَوْمَ التلاق} إما ظرفٌ للمفعولِ الثانِي أي لينذرَ الناسَ يوم العذابَ التلاقِ وهو يومُ القيامةِ لأنَّه يتلاقَى فيهِ الأرواحُ والأجسامُ وأهلُ السمواتِ والأرضِ أو هُو المفعولُ الثانِي اتساعاً أوْ أصالةً فإنَّه منْ شدةِ هولِه وفظاعتِه حقيقٌ بالإنذارِ أصالةً وقرئ: {ليُنْذرَ} عَلَى البناءِ للمفعولِ ورفعِ اليومِ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8